حكم الاحتجاج على المعاصي بمشيئة الله

حكم الاحتجاج على المعاصي بمشيئة الله

حكم الاحتجاج على المعاصي بمشيئة الله، من الأحكام التي ناقشها أهل الفقه والعقيدة وفصّلوا فيها وذكروا الأدلّة الشرعية التي تُقوّي آراءهم وتدعمها؛ والسبب في ذلك وجود بعض الناس الذين يفعلون المعاصي والذنوب وإذا سُئلوا عن سبب فعلهم هذا نسبوه لمشيئة الله وتقديره عليهم، وفي هذا المقال سنبيّن حكم الاحتجاج على المعاصي بمشيئة الله، ونبيّن أيضًا حكم الاحتجاج على المصائب بمشيئة الله سبحانه وتعالى.

مشيئة الله

دلّت بعض الآيات القرآنية على المشيئة المطلقة للخالق العظيم، ومن هذه الآيات قول الله تعالى في سورة المدّثر: “وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ”،[1] وقال أيضًا في سورة التكوير: “وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ”،[2] فهذه الآيات تبيّن أنّ كل أفعال العباد واقعة ضمن مشيئة الله سبحانه، ولكنّها لا تعني الإجبار فالواقع يُثبت أنّ الإنسان مُسيّر ومُخيّر، فهناك أمور مكتوبة عليه ومفروضة كمكان ولادته ومن هم أهله والصحة والمرض وغير ذلك، وهناك مجموعة أخرى من الأفعال تقع في دائرة اختيار العبد كالأكل والشرب والجلوس والمشي، ومنه أيضًا القيام بالفرائض وأداء الواجبات، أو فعل المعاصي كشرب الخمر والزنا، فالله تعالى شاء لعباده أن يشاؤوا ويكون لهم اختيار في الأمور التي كلّفهم بها وطالبهم بفعلها أو تجنّبها، وفي الفقرة التالية سيتم بيان حكم الاحتجاج على المعاصي بمشيئة الله.[3]

حكم الاحتجاج على المعاصي بمشيئة الله

ناقش العلماء حكم الاحتجاج على المعاصي بمشيئة الله سبحانه وتعالى، وبيّنوا بطلان هذا الاحتجاج وردّوا على هذه الشبهة بالكثير من الردود المقنعة، والإجابات الدانغة التي توضّح بشكل قاطع أنّه لا يجوز للعبد أن يفعل المعاصي والذنوب ويترك القيام بالواجبات والفرائض، ثمّ يقول أنّه ليس له مشيئة في ذلك، وأنّ الله تعالى هو من قدّر عليه أن يشرب الخمر أو أن يزني أو يتعامل بالربا أو غير ذلك كترك الصلاة والامتناع عن الصيام وعدم الامتثال لأمر الله سبحانه بفعل الواجبات واجتناب المنهيات، وفيما يأتي ذكر لمجموعة من الردود والأدلّة الشرعية التي يتم من خلالها بيان بطلان الاحتجاج على المعاصي بمشيئة الله وفساد ذلك:[4]

الأدلّة الشرعية

ورد في القرآن الكريم والسنّة النبوية الكثير من الأدلّة التي تبيّن حكم الاحتجاج على المعاصي بمشيئة الله، وتؤكّد بطلان هذه الدعوة، ومن هذه الأدلّة ما يأتي:[4]

  • عدم قبول الله -عزّ وجلّ- هذه الحجة من الكفّار الذين احتّجوا بالقدر وبمشيئة الله على الشرك والكفر، حيث قال تعالى في سورة الأنعام: “سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا ۗ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ”،[5] فالله سبحانه عادل ولو كانت حجّتهم مقبولة وسائغة لما عذّبهم بذنوبهم.
  • إرسال الله تعالى الرسل كي يبلّغوا عباده بدينه وشرعه، ولو كان الاحتجاج بمشيئة الله على المعاصي جائزًا لما كان هناك داعٍ من إرسال الرسل، وقد قال تعالى: “رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا”.[6]
  • الله -عزّ وجلّ- لا يُكلّف الإنسان إلّا بما يستطيع، فإذا كان الإنسان مجبر على كلّ شيء فكيف سيُكلّف بالصلاة والصيام واجتناب المعاصي، والدليل قول الله تعالى: “فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ”،[7] وقوله أيضًا في سورة البقرة: “لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا”،[8] فالعبد لا يُحاسب على الأفعال التي ليس له إرادة فيه ويُكره عليها.
  • اعتراف أهل النار بأنّ تقصيرهم كان بمحض إرادتهم ولم يكونوا مجبرين على ذلك، وأنّهم لو عادوا إلى الدنيا لتغيّرت أفعالهم ولاجتنبوا المعاصي وفعلوا الأوامر، فقد ورد في سورة إبراهيم أنّهم يقولون: “رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل”،[9] وورد أيضًا في سورة المؤمنون: “قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ”،[10] كما أنّهم اعترفوا بتقصيرهم في الصلاة وإطعامهم المسكين وغير ذلك من الطاعات.
  • الدليل من السنّة قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “كُنَّا في جِنَازَةٍ في بَقِيعِ الغَرْقَدِ، فأتَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ، وَمعهُ مِخْصَرَةٌ فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بمِخْصَرَتِهِ، ثُمَّ قالَ: ما مِنكُم مِن أَحَدٍ، ما مِن نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ، إلَّا وَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ مَكَانَهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، وإلَّا وَقَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً، أَوْ سَعِيدَةً، قالَ فَقالَ رَجَلٌ: يا رَسُولَ اللهِ، أَفلا نَمْكُثُ علَى كِتَابِنَا، وَنَدَعُ العَمَلَ؟ فَقالَ: مَن كانَ مِن أَهْلِ السَّعَادَةِ، فَسَيَصِيرُ إلى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمَن كانَ مِن أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، فَسَيَصِيرُ إلى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَقالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ”.[11]

الأدلّة العقلية

إنّ العقل السليم والفطرة الصحيحة يُدرك خطأ الاحتجاج على المعاصي بمشئة الله دون الحاجة لإيراد أدلّة، ولكنّ الدين الإسلامي يعتمد على الإقناع المنطقي بناءً على حجج وبراهين عقلية لا تقبل الشك والتشكيك، وفيما يأتي جملة من الردود العقلية والأدلّة المنطقية التي ذكرها أهل العلم في بيان حكم الاحتجاج على المعاصي بمشيئة الله:[4]

  • إنّ مشيئة الله سبحانه وتقديره هو سر مكتوم عن العباد، فهم لا يعلمون ما سيحصل قبل وقوعه، فالإنسان لا يعلم ما سيترتب على فعله قبل القيام بالفعل وعليه فكيف عرف أنّ الله تعالى شاء له أن يفعل المعاصي أو أن يترك الواجبات.
  • إنّ صحّة الاحتجاج على المعاصي بمشيئة الله تعني تعطيل الحساب والمعاد والثواب والعقاب.
  • يحرص الإنسان على فعل الأمور الدنيوية التي تنفعه وتفيده ويبتعد عمّا يضّره ولا يحتج بذلك بالمشيئة، فلماذا يحتج به في الأمور التي يترتب عليها ثواب وعقاب في الآخرة.
  • إنّ الاحتجاج على المعاصي بمشيئة الله يؤدّي للاحتجاج على إيذاء الناس ونهب أموالهم بالمشيئة أيضًا بدون وجود عقوبة أو رادع، وهذا يؤدّي إلى انهيار النظام في العالم كلّه وانتشار الفوضى.
  • الله تعالى كتب على الإنسان أعماله منذ الأزل ولكنّ هذه الكتابة هي نتيجة لعلمه الأزلي الشامل، فهو يعلم ما يكون عليه عباده قبل خلقهم وإيجادهم.

حكم الاحتجاج على المصائب بمشيئة الله

يتعلّق حكم الاحتجاج على المعاصي بمشيئة الله بكثير من القضايا والأحكام الأخرى، ومن هذه الأحكام: حكم الاحتجاج على المصائب بمشيئة الله، فالإنسان عندما تصيبه مصيبة ليس له فيها يد فهو لا يستطيع دفعها أو ردّها، ولو كان الأمر متوقف على مشيئته لما أراد بالطبع أن تقع به مصيبة وتنزل عليه البلايا، ولكنّها إرادة الله ومشيئته، وعلى هذا فيمكن للإنسان أن يقول أنّ هذه المصيبة وقعت بمشيئة الله، فيصبر ويرضا ويحتسب حتّى تكون هذه المصيبة سبب في رفع درجته وعلو منزلته.[12]

كما قد يُذنب الإنسان الذنب ثمّ يتوب منه ويستغفر ربّه ويستقيم حاله فلا يعود إلى ذلك الذنب وتلك المعصية، فيأتي شخص آخر ويذكّره بذنبه هذا فله حينها أن يحتج بمشيئة الله على ذلك الذنب لأنّه بعد توبته منه أصبح كالمصيبة في حقّه، وله أن يقول أن الله تعالى قدّر عليه هذا الأمر وأنّه تفضّل عليه وألهمه الرشد ووفقّه للتوبة.[12]

وبهذا نكون قد ذكرنا معظم الأدلّة والردود في مقابل الاحتجاج على المعاصي بمشيئة الله، وبيّنا حكم هذا الاحتجاج وبطلان هذه الدعوة، وتطرّقنا لحكم الاحتجاج على المصائب بمشيئة الله، وأنّ ذلك جائز كما أنّ الاحتجاج على المعاصي بمشيئة الله بعد التوبة منها هو أمر جائز أيضًا، والله تعالى أعلم.

المراجع

  1. ^ سورة المدثر , الآية 56
  2. ^ سورة التكوير , الآية 29
  3. ^ islamweb.net , مشيئة الله لا تنفي وجود مشيئة للعباد , 1-11-2020
  4. ^ islamqa.info , حكم الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي أو ترك الواجبات ؟ , 1-11-2020
  5. ^ سورة الأنعام , الآية 148
  6. ^ سورة النساء , الآية 165
  7. ^ سورة التغابن , الآية 16
  8. ^ سورة البقرة , الآية 286
  9. ^ سورة إبراهيم , الآية 44
  10. ^ سورة المؤمنون , الآية 106
  11. ^ صحيح مسلم , مسلم ، علي بن أبي طالب ، 2647 ، حديث صحيح
  12. ^ islamweb.net , الاحتجاج بالقدر على المصائب بين الجواز والمنع , 1-11-2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *